الحرب في السودان- تآكل الدولة، صراعات جديدة، ومصالح خارجية

من الخطأ الفادح أن تعتقد القيادات العسكرية والقوى السياسية السودانية أن الصراع الدائر في السودان هو مجرد نزاع بين طرفين أو جنرالين، وهو التبسيط الذي تتبناه بعض الفصائل السياسية. لكن الواقع الميداني، وبعد مرور عامين على اندلاع الحرب، يشير إلى ظهور نمط قتالي مستجد وغير مألوف في المنطقة، سبق تجربته في ليبيا، إلا أن تدخل القوى الدولية ذات المصالح المتضاربة والمتقاطعة في الهلال النفطي الليبي سرعان ما أوقفه.
تفاقم الأزمات وتدهور النفوذ
لقد استهدف الصراع في السودان تدمير أسس الدولة من الداخل دون الحاجة إلى تدخل أجنبي سافر، وشهد انتشارًا لنوع جديد من القتال بلا جبهات واضحة. سعت قوات الدعم السريع، في الأشهر الأولى للحرب، إلى إخضاع الجيش السوداني من خلال تدمير قدراته العسكرية وإضعاف المؤسسة العسكرية بعد فشل المحاولة الأولى.
وبالإضافة إلى ذلك، عملت الحرب على إلحاق شلل شبه كامل بالدولة المنهكة أصلاً، حيث تآكلت هياكلها وتدهورت مركزيتها مع ظهور ولاءات جديدة تتقاسمها قيادات الحرب والقوى السياسية المتصدعة بعد التغيير السياسي الذي جاء في ظل ضعف الانسجام القومي المعقّد. وقد شكلّ ذلك عائقًا أمام أي محاولات جادة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما أدخل الدولة في معادلة جديدة، لتتحول إلى حقل تجارب يصبح فيه المواطن وقودًا في صراع خصومه.
لقد أنهت حرب الجيل الرابع في السودان احتكار الدولة للعنف وتوجيه السياسات تجاه مواطنيها، وعملت بشكل ممنهج على تقويض ثقتهم بها، وإضعاف نفوذها من خلال تفاقم الأزمات المتلاحقة، والاستقطاب الحادّ بين المكونات الإثنية والجغرافية، وسيولة النسيج المجتمعي بقيادة حروب الوكالة من قبل المجموعات المحلية ضد الدولة المركزية ومواردها.
تجسدت هذه الاستراتيجية في ممارسات قوات الدعم السريع العنيفة، وسط صمت دولي مريب، خاصة إذا ما قورن بما حدث في حرب دارفور الأولى، والتي استدعت حشدًا دوليًا واسعًا، وتدفقت القرارات والجلسات والنداءات واللجان والمبعوثين، بالإضافة إلى التظاهرات التي أدت إلى تعبئة الضمير العالمي.
في هذا الصراع المحتدم، تلاشت الفروقات بين المقاتلين والمدنيين، وأصبح من الصعب التمييز بين ساحة المعركة والساحة السياسية. رفعت الشعارات السياسية على أسلحة قوات الدعم السريع، وتم التذرع بالبحث عن الديمقراطية وسط معاناة المدنيين وآلامهم، بدلًا من الاستماع إلى أصواتهم الحقيقية. فضلاً عن التدخلات الخارجية تحت غطاء بعثات دولية وأممية، سعت هذه القوى مطولاً إلى هندسة مشروعها الخاص في السودان وفرض أجندات جديدة على أرض الواقع.
إلا أنها واجهت مقاومة شرسة أجبرتها على التراجع، وهو ما تجلى بوضوح في إطلاق الرصاصة الأولى للحرب، حيث عبّر عن ذلك أحد ممثلي مشروعهم بقوله: "إما الاتفاق الإطاري، أو الحرب".
خصوم مستجدون
منذ بداية الحرب، كانت المقرات الرئيسية للجيش السوداني، بما في ذلك أسلحته المركزية في الخرطوم ومواقعه الاستراتيجية، ومراكز الاتصالات وأجهزة الإعلام، والمقار الحكومية المختلفة، أهدافًا مباشرة لقوات الدعم السريع. بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير منظومة الصناعات الدفاعية التي حققت نجاحات كبيرة في مجال الصناعات العسكرية.
وهذا أوجد للجيش السوداني خصومًا جددًا في أسواق السلاح التي تحتكرها الشركات الغربية، مما أدى إلى حملات مبكرة على مؤسسات التصنيع الحربي وتفكيك شركات الجيش، انتهت بالتدمير الكامل.
وبسبب افتقار قوات الدعم السريع لقيادة عسكرية مؤهلة لخوض مثل هذه الحروب، حيث يقودها ضباط لم يتلقوا تعليمًا نظاميًا، وعلى رأسهم القائد نفسه، انتشرت الحرب في مساحات واسعة معتمدة على شبكات جديدة من المقاتلين والحركات المسلحة في المنطقة، مثل مجموعات فاكت وحركة مظلوم التشاديتين، والسليكا في أفريقيا الوسطى، ومليشيات النوير في جنوب السودان.
كما أطلقت سراح المجرمين من السجون، بمن فيهم متعاطو المخدرات والمحتجزون في قضايا جنائية أخرى، وأوقدت نار الفتنة القبلية من خلال استقطاب زعماء بعض القبائل، عبر حملات وأدوات التأثير الاجتماعي والنفسي الموجهة إلى المكونات المختلفة عبر أذرع أنشأتها من منظمات ومراكز ومؤسسات رأي عام منذ وقت مبكر، مما منحها مزايا غير متكافئة مع الجيش النظامي. وبذلك استطاعت تعويض النقص في بنية تكوين قواتها وتأهيلها، والتي يغلب عليها طابع الميليشيا لا الجيش النظامي المنضبط.
أدارت قوات الدعم السريع معاركها بأسلوب لا مركزي متجاوزة الأشكال الهرمية التقليدية، واستغلت شبكات واسعة في المناطق التي دخلتها، واستخدمت تكتيكات غير عسكرية في الانتشار العشوائي، بهدف زعزعة استقرار المجتمعات، مما اضطر ملايين المواطنين إلى النزوح حفاظًا على أرواحهم وأعراضهم. هذه التكتيكات خدمت أهداف الحرب الجديدة في صناعة صورة ذهنية تدفع الجميع إلى الفرار وترك أراضيهم لمستوطنين جدد.
ترسيخ ثقافة النهب
لقد عززت حرب الدعم السريع بالوكالة من استخدام استراتيجيات الإعلام والمعلومات والمصادر المفتوحة، وشجعت ثقافة الغنائم والنهب دون الحاجة إلى إمداد لقواتها أو رواتب رسمية، مما أدى إلى انضمام الآلاف إليها. وقد أدى ذلك إلى إفقار المجتمعات المحلية، وتعقيد موقف الجيش في المناورة، وتشكيل جبهات ضغط نفسي من المواطنين على قيادة الجيش لحمايتهم في رقعة جغرافية واسعة تحتاج إلى آليات غير متوفرة للمؤسسة العسكرية.
إن استهداف التجمعات المدنية لا يهدف إلى تحقيق نصر عسكري، ولكنه يأتي ضمن الحرب النفسية التي تستهدف تقويض استقرار الدولة وسلطاتها، والطعن في شرعية الحكومة الضعيفة الغائبة، وهزّ صورة قائد الجيش وإظهاره بمظهر العاجز عن حماية مواطنيه.
لقد دمرت الحرب البنى التحتية والمصارف والمؤسسات وحقول النفط، وجعلت قوات الدعم السريع أكبر تجمعاتها في مصفاة النفط في الخرطوم منذ اليوم الأول، وعمل شركاؤها على تعطيل سلاسل الإمداد التي تزوّد الجيش بالمعدات، وفرضوا عقوبات على منظوماته الاقتصادية، مع عقوبات رمزية غير متكافئة على شركات الدعم السريع التي تعمل في مجال التحويلات المالية أو تجارة الذهب.
هذه العقوبات لم تخلُ من أهداف خفية، حيث تجنبت دولًا ومجموعات ظلت تدعم مشروع التمرد بالأسلحة وتجنيد المقاتلين، في مفارقة دولية واضحة. ففي الوقت الذي فرض فيه شركاء الدعم السريع حصارًا غير معلن على السودان والجيش، جمدوا عضويته في الاتحاد الأفريقي، واستقبلوا "حميدتي" ببروتوكولات رسمية.
كما تم احتواء جيران السودان بحوافز جديدة ومشروعات اقتصادية، واستخدمت وسائل المنظمات الدولية في الحصار تارة بالتحايل، وتارة بالتشبيك والضغوط والترهيب. وحين توصلت قيادة الجيش لاتفاق مع روسيا لمحطة التزوّد في البحر الأحمر، تزايدت الضغوط من خلال الأوضاع الإنسانية، وفتح مسارات التدخل الأجنبي عبر الحوار لتكرار سيناريو شريان الحياة الذي كان يعمل على إمداد التمرّد في جنوب السودان تحت غطاء المساعدات الإنسانيّة.
حقيقة دامغة
إن اختبار حرب الجيل الرابع في السودان، ركّز الفاعلون فيها على أن تكون طويلة ومعقدة، حسبما صرّح به نافذون في قوى عظمى، وذلك بهدف إفقاد الدولة السودانية القدرة على إدارة شؤون مواطنيها، مما يقوض ثقتهم بها ويجعل قياداتها ترضخ بالقبول بالهندسة القادمة للمنطقة بعد المتغيرات الجديدة في مناطق الساحل الأفريقي، وهشاشة الداخل الإثيوبي، واهتزاز الدولة في جنوب السودان، وغيابها في أفريقيا الوسطى، والتهديدات التي تواجهها الأوضاع في تشاد.
وبناءً على ما سبق، سيتم فرض واقع جديد يحقق المصالح التي قامت من أجلها عمليات التغيير والحرب، والتي أفضت إلى وضع أكثر هشاشة ومأساوية وفشلًا، وإرغام الجميع على القبول بالتشكيل الجديد وَفق معادلات جديدة. ستكون قوات الدعم السريع وقيادتها من ضحاياها، والخاسر الأكبر في حرب لم تكن إلا أداتها البشعة التي حققت تآكل إرادة الخصم بدلًا عن انتصاره أو هزيمته في معركة لم يكن مستعدًا لها، ولم يعرف جنرالاته أبعادها.